بلدي نيوز – (تركي مصطفى)
مع انهيار تنظيم "الدولة" في وادي الفرات بخسارته مدينة البوكمال آخر معاقله الكبرى, لم يتبق له سوى جيوب صغيرة على ضفاف الفرات, ولسان مثلم يمتد من الصالحية إلى المحطة الثانية بالقرب من حميمة, يعكر صفو الممر الشيعي الإيراني بعد اتضاح حدود التفاهمات وخطوط التشابكات بين حلفاء الأمس وفرقاء اليوم, فالولايات المتحدة باتفاقها الجديد مع التنظيم لتجميد القتال بينهما في الضفة اليمنى من الفرات, وتوقف الطيران الروسي عن قصف التنظيم, يشي بتبدلات سياسية نحو تحجيم دور إيران في المنطقة, فهل تتمكن واشنطن ومعها موسكو من توظيف بقايا تنظيم "الدولة" لمواجهة إيران؟ أم أن هناك صفقات سرية لتوزيع الحصص والغنائم بين الحلفاء والفرقاء؟.
توطئة:
تناقش هذه الورقة آخر المعارك على ضفتي أسفل وادي الفرات السوري, وتداعياتها على المشهد السياسي, ومدى قدرة إيران الحفاظ على تفعيل القوس الشيعي الممتد من طهران إلى البحر المتوسط عبر العراق وسورية, بعد أن وضعت كل إمكانياتها العسكرية والمادية للسيطرة على البوكمال وسعيها إلى تنظيف جوانب هذا القوس من كل المعوقات بعد انكماش تنظيم "الدولة" في منطقة جغرافية تتسع حينا وتتقلص أحيانا.
وتستعرض الورقة في سياق هذه المناقشة، تجميد الولايات المتحدة قتالها للتنظيم على الضفة اليسرى للفرات, وتوقف الطائرات الروسية عن استهداف التنظيم أيضا, وما تمثل هذه الاستراتيجية من أبعاد مختلفة بالنسبة لمحور الحلفاء والتحالف.
وتنظر الورقة، برؤية استشرافية معمقة، لمصير بقايا التنظيم والتواجد الإيراني في منطقة نفوذ المصالح الأميركية.
مقدمة:
انهار تنظيم "الدولة" في الضفة اليسرى من وادي الفرات الأسفل بشكل متسارع أمام زحف قوات التحالف بقيادة واشنطن وعمادها قوات "قسد", وتعاظم امتداد حلفاء روسيا على الضفة الأخرى في سباق محموم للسيطرة على مدينة البوكمال التي تعتبر أهم الأهداف الاستراتيجية لإيران كونها نقطة الوصل بين العراق وسورية وعقدة رئيسية لقوسها الذي يشكل هدفا لدعم ميليشياتها العاملة في سورية ولبنان بالعدة والعتاد, ودعامة لاقتصادها ورافدا متنوع الموارد, علاوة على استغلال الظروف المتشابكة إقليميا ودوليا لتقديم نفسها كقوة منافسة في المنطقة.
يلفت الانتباه الإمكانيات العسكرية والمادية التي سخرتها طهران لمعركة البوكمال بعد أن زجت بحرسها الثوري بقيادة "قاسم سليماني" ومعه ضباط إيرانيون هاجموا البوكمال من الأراضي العراقية, وتمكنوا من احتلالها قبل وصول قوات "قسد" المدعومة أميركيا إلى المنطقة.
هذا الاهتمام الإيراني لفت انتباه واشنطن إلى خطورة التمدد باتجاه البحر المتوسط نحو القواعد العسكرية الإيرانية المنتشرة على حواف القوس, إضافة إلى خشية إسرائيل من تسخير هذا الممر في دعم الميليشيات الشيعية الإيرانية للضغط على إسرائيل لقبول إيران لاعبا قويا في المحفل الإقليمي, ولتسوية قضايا طهران العالقة مع واشنطن.
مما جعل الوجود الإيراني في المنطقة هدفا معلنا للولايات المتحدة من جهة, ولروسيا التي تقدم نفسها اللاعب الأكبر في القضية السورية, لذلك كانت أولى الخطوات العملية اتفاق واشنطن مع تنظيم "الدولة" في الضفة اليسرى من الفرات على تجميد القتال في مناطق سيطرة التنظيم, وتوقف روسيا عن استهداف التنظيم بطيرانها, وإعلان الرئيس بوتين الانتصار على التنظيم لأسباب داخلية, لفسح المجال أمامه لمواجهة إيران في تلك المنطقة, ونقل قسم منهم إلى مناطق ريف حماة الشرقي لشرعنة تصفية فصائل الثورة المعتدلة, مع علو نبرة التهديد والوعيد المتبادلة بين طهران وواشنطن بانتظار تحولات سياسية وعسكرية في المنطقة بعد أن بلغت إيران حدا من الانتفاخ العسكري الآيل للانفجار عاجلا أو آجلا.
البوكمال.. معركة "الحرس الثوري" الإيراني:
تكشف المعارك في منطقة البوكمال عن تجاذبات متباعدة بين تحالف واشنطن وأحلاف موسكو وحتى في داخل كل حلف منهما, وتبدو الصورة للمراقب أن هدف تلك المجاميع محاربة تنظيم "الدولة"، غير أن استمرار المعارك يقدم استراتيجيات جديدة سيجري الوقوف عندها لرصد تفاعلاتها ومآلاتها. وقد سبق أن تناولنا في ملف خاص أطراف المتصارعين في تلك المنطقة, بيد أن اللاعب الجديد في معركة البوكمال تجسد بـ"الحرس الثوري" الإيراني الذي هاجم البوكمال من الأراضي العراقية بقيادة قاسم سليماني وضباط من "الحرس الثوري", وبدأت المعركة وفق خطة ظرفية فرضها تسارع الأحداث العسكرية على إيران بعد محاولة "قسد" التقدم باتجاه مدينة البوكمال, فجاءت حسب أولوية أهداف وغايات طهران لتأمين عقدة البوكمال المبرر الأبرز لزج "الحرس الثوري" الإيراني في أتونها بعد أن استغنت عن خدمات مرتزقتها المباشرة من ميليشيات "حزب الله" اللبناني وتلك التابعة للأسد.
وباستثمار ضربات الطيران الروسي ووسائط النيران الأخرى في شلِّ قدرات تنظيم "الدولة" داخل مدينة البوكمال ومحيطها، تقدمت قوات "الحرس الثوري" الإيراني من داخل الأراضي العراقية, وأنشأ قاسم سليماني مع ضباط غرفة عمليات عسكرية على أطراف مدينة البوكمال الشرقية, ورغم كثافة النيران عبر وسائط مختلفة من طيران ومدفعية ميدان، إلا أن التنظيم تمكن في الأسبوعين الأول والثاني من عمر المعركة من تفعيل تقنية الأكمنة والإغارة على مواقع "الحرس الثوري", مما سجل ارتفاعا عاليا في خسائر الحرس الثوري والتي تجاوزت 75 قتيلا بينهم قياديون على رأسهم "خيري الصمدي" مستشار قاسم سليماني، وقادة ميدانيون من "حزب الله" اللبناني، وآخرون من ميليشيات عراقية، مما اضطر سليماني إلى تفعيل محور القتال الثاني من بادية حميمة والمحطة الثانية t2 الذي يشغله ميليشيا "حزب الله" اللبناني وميليشيات الأسد, إضافة إلى مضاعفة طلعات الطيران الروسي وذاك التابع للأسد في سابقة لم تشهدها المدينة من قبل، إذ بلغ عدد الغارات الجوية في الأسبوع الثاني من المعركة 70 غارة, مما مهد لقضم أحياء المدينة المهدمة تدريجيا والتقدم إلى مركزها وإعلان انتهاء الأعمال العسكرية فيها بعد مرور شهر على انطلاقتها, دفعت إيران تكلفتها العالية بمقتل 200 من عناصر "الحرس الثوري" والميليشيات الشيعية المساندة لها, إضافة لمقتل أكثر من 150 عنصراً من قوات الأسد وجرح آخرين.
لا شك في أن حجم الخسائر المادية والبشرية، في معركة البوكمال، يقدِّم إجابات واضحة على أهمية المدينة بالنسبة لإيران.
واشنطن واستراتيجية استنزاف إيران
من رصد المواجهات الدائرة في البوكمال بعد سيطرة إيران عليها، اتبعت واشنطن استراتيجية الإرهاق واستنزاف الميليشيات الإيرانية، وهي استراتيجية تهدف إلى زج إيران في حرب مفتوحة في منطقة صحراوية واسعة, تدفع خلالها ثمنا باهظا من عناصرها تؤدي إلى إنهاكها وحتى إن خرجت منتصرة فتبقى ضعيفة أمام حلفاء واشنطن من قوات "قسد" وغيرها, مما يتيح التفوق عليها كطرف مستنزف, لذلك بعد حسم معركة البوكمال, لجأت واشنطن إلى تفعيل هذه الاستراتيجية عبر هدنة بين قوات "قسد" وتنظيم "الدولة" في مناطق شمال نهر الفرات لمدة شهر قابلة للتجديد، ورغم نفي الجانب الأمريكي هذه الهدنة, فإن وقائع الأرض تشير إلى سريانها بعد تجميد قوات "قسد" القتال مع التنظيم في الضفة اليسرى من الفرات, وغياب الطيران الأميركي عن تلك المنطقة في محاولة استخدام التنظيم بطريقة غير مباشرة لقتال إيران في البوكمال عبر هذه الهدنة، وتفرغ التنظيم لجبهة الضفة اليمنى من النهر وتهديده المستمر لمدينة البوكمال والمنطقة الواقعة بين المحطة الثانية والصالحية، وهي منطقة واسعة بطول 70كم, وهي استراتيجية اعتمدتها واشنطن قبل أشهر في المناطق القريبة من دير الزور, وعندها أتاحت للتنظيم حرية التنقل بأرتاله عبر الحدود العراقية بعد عبور الميليشيات الإيرانية إلى الضفة اليسرى للنهر، مما مكن التنظيم من السيطرة على منطقة واسعة تمتد من الشولا بأطراف دير الزور الجنوبية ولغاية بلدة السخنة في عمق الصحراء, وقتل المئات من الميليشيات المختلفة, وأسر جنود روس أعدمهم التنظيم لاحقا.
روسيا واستثمار "نصر" البوكمال
اعتبرت روسيا نفسها الطرف الأكبر في تحقيق النصر على تنظيم "الدولة" في معركة البوكمال, ولذلك من حقها استثمار هذا النصر على طريقتها, فهي توقفت عن مطاردة التنظيم في مناطق نفوذه ولم تتشبث بالأرض التي احتلتها, وكذلك لم تعمل على تأمينها, فما الذي دفعها لإعلان انتصارها والقضاء على تنظيم الدولة؟
جاء إعلان "النصر" في بيان لهيئة الأركان العامة الروسية عن تحرير كافة الأراضي السورية من تنظيم "الدولة"، ونقلت وكالة نوفوستي الروسية عنها انتهاء العمليات العسكرية ضد التنظيم.
وتلا ذلك إعلان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين سحب قوات بلاده من سوريا.
يأتي هذا الإعلان في سياق رغبة روسيا في تسريع العملية السياسية، إذ يشير مراقبون هنا إلى زخم تحركات الرئيس الروسي الذي شارك هذه السنة في قمتين مع الرئيسين الإيراني والتركي، وزار بشكل متكرر عواصم مهمة في المنطقة، كما باتت بلاده اللاعب الرئيس في المشهد السوري.
وفي هذا الإطار، يقول الروس: إن أولوية بلادهم اليوم هي إيجاد تسوية سياسة للأزمة هناك.
في المقابل، فإن القراءة الأميركية -التي عبّر عنها الناطق باسم البنتاغون- تشير إلى أن روسيا تسعى من وراء إعلانها انتهاء الحرب على تنظيم "الدولة" إلى مطالبة بقية الأطراف- وخاصة الولايات المتحدة- بسحب قواتها من هناك.
علاوة على ذلك، فإن الروس أمام استحقاقات داخلية يأتي على رأسها الانتخابات, وبطولة كأس العالم لكرة القدم, لذلك فإن الاحتفاء الروسي بالنصر على تنظيم "الدولة" رسالة إلى الداخل والخارج على قدرتها في تأمين الاستقرار والقضاء على البعبع الذي يخيف العالم.
خلاصة
في ضوء ما تقدم فإن الحرب الدائرة في منطقة البوكمال في أحد أهم أبعادها الاستراتيجية, الصراع على المنطقة الحدودية، أي قطع أو وصل طريق "طهران- بغداد - دمشق – بيروت" الأمر الذي تطلب حشد إيران لآلاف من ميليشياتها, بينما تسعى الولايات المتحدة إلى إغراق إيران في هذا المستنقع من خلال إبقاء قوة فاعلة لتنظيم "الدولة" لزجها في حرب استنزاف مع إيران الطامعة في تمكين نفوذها في المنطقة عبر تفعيل قوسها الشيعي, فيما تبدو روسيا الطرف المستعجل لإيجاد تسوية سياسية في سورية وفرض هيمنتها باعتبارها القوة الأكبر في تدمير المدن والقرى السورية.